الدمار قد حل
صوت هادئ ينساب وسط الصمت المخيف، قبل أن تشتعل النيران في الأفق، تلتهم ما تبقى من المدينة. الأسوار محطمة، جثث الجنود ممزقة، وأجسادهم مشوهة بأشواك سوداء تخترقهم من كل اتجاه. الدماء تسيل بين الحطام، تختلط بالرماد، فيما يلفح الدخان السماء القاتمة.
تحت الأنقاض، يتحرك شيء... يدٌ دامية تخرج بصعوبة، تزيح الصخور الثقيلة. شخص ما يحاول النهوض."لم أكن أعلم أنها ستصل إلى هذه المرحلة..." يتردد الصوت مجددًا، مشحونًا بندم غامض.
يعتدل الرجل، جسده منهك، التراب يغطيه، لكنه يسقط على ركبتيه، يتنفس بصعوبة. فجأة، يقتحم صوت متقطع رأسه، كأن شخصًا ما يحاول الوصول إليه:
"أ... كاينو... هل.. تسمعني؟"
يرفع رأسه ببطء، يهمس بصوت مبحوح: "نعم... أسمعك."0
الصوت يتردد من جديد، متقطعًا أكثر، وكأن شيئًا ما يعترضه:
"كم... تبقى؟"
يرمش أكاينو بسرعة، يحدق في يده المرتجفة... ثلاث دوامات سوداء تدور ببطء فوق جلده.
يتمتم بصوت متوتر: "تبًا... لم يتبقَّ الكثير من الوقت"0
يحاول النهوض، الألم يمزق أوصاله، الدماء تتساقط منه، لكن شيئًا يجمده في مكانه.
خطوات ثقيلة تهز الأرض...
يرتجف جسده بالكامل، يلتفت للخلف ببطء، وعيناه تتسعان في صدمة مطلقة.
قدم تتقدم...
رداء ممزق يتمايل مع رياح الدمار...
الضباب يتبدد ببطء، كاشفًا عن عيون مشتعلة بلون الدماء.
خلفه، كائنات ضخمة، مشوهة، ليست بشرية. أجسادها الهائلة تنتظر، تتحرك ببطء كحيوانات مفترسة في قفص، متأهبة للانقضاض، مترقبة الإشارة.
يرتفع صوت هادئ، لكنه يمتلئ بيقين مميت:
"لقد انتهى كل شيء... هذه هي الفرصة الأخيرة."
يتصلب جسد أكاينو، يحدق به بجمود، قبل أن يتمتم بصوت منخفض، لكن محمّل بثقل الحقيقة:
"لطالما كان بيدنا أن نحل الأمر... كان الاختيار دائمًا أمامهم... لكن الآن؟ الآن سينتهي كل شيء... إلى الأبد."
يضغط بيده المرتجفة... الدوامات السوداء تشتعل، تشع بضوء غريب.
في تلك اللحظة، يرفع (؟؟؟) يده ببطء، عيناه تتوهجان كالجمر، ومع إشارة واحدة...
تنطلق الوحوش!
تهدر الأرض تحت وقع خطاها، صرخاتها تشق السماء، تتجه نحوه بسرعة خاطفة.
وأكاينو؟
ورغم الجروح... يركض نحوهم!
---
قبل سنوات... كان يركض بنفس الجنون. أرض السوق تنزف تحت قدميه، صرخات الجنود تلاحقه: "إنه الهارب الذي أخفت يداه العلامة!"... شعره الفضي يلمع تحت ألسنة اللهب.
الآن... الوحوش تُحيطه... الدوامات السوداء تتفجر من كفّه... نفس الشعور... نفس الهروب.
---
الشمس تشق طريقها عبر الأفق، خيوطها الذهبية تتسلل بين الأغصان، تلون السماء بدرجات هادئة. العصافير تغرد بلحن ناعم، والنسيم العليل يحرك أوراق الأشجار بخفة.
وسط هذا الهدوء...
يد قوية تنطلق فجأة!
كــســر!
قطعة خشب تتشقق تحت ضربة حادة، يتناثر بعض نشاره في الهواء. العرق يتصبب على الجبهة، يتدحرج على الوجنتين، قبل أن تُمسح بكمّ القميص المتسخ.
يتراجع قليلًا، يضع الفأس جانبًا، ينهض ببطء، يأخذ نفسًا عميقًا، وعيناه تتجهان نحو السماء...
يتحسس رسغه الأيسر بإصبعين... حيث تختفي دوامة سوداء تحت الجلد. شعره الفضي يتطاير مع الريح، كأنه شعلةٌ من ضوء القمر... قبل أن تُخمدها سنوات الدم.
وفجأة—
طائر يندفع بسرعة خاطفة!
يحلق عالياً، يعبر فوق أسوار شاهقة بنقوش ذهبية، أقدم من الزمن نفسه...
بوابات ضخمة تُفتح... تُغلق...
حشود تتدفق... وجوه تترقب... أصوات تتداخل...
أسواق تضج بالحياة... لكن تحتها، شيء آخر ينبض.
أمام البوابة... تحت أشعة الشمس اللاهبة، يسير رجلٌ بانحناءة خفيفة، كتفاه مثقلتان بسلةٍ مليئةٍ بالخشب. خطواته هادئة، متزنة، كأنها تحسب كل ذرة غبار تحت قدميه. العرق يتصبب على جبينه، ينساب على وجنتيه، قبل أن يمسحه بكمّه الممزق.
الصوت يعود من جديد، هادئًا لكنه مشبع بمرارة لا تخطئها الأذن؛
"أنا مجرد مزارع... عامل بسيط، من أدنى الرتب في المملكة، الرتبة ألفاحيث يجتمع الضعفاء، حيث يُمحى الأمل قبل أن يولد"
عينيه لا تفارقان الأفق... هناك، السور العظيم يلوح كظلٍ ممتد، كأنه جبلٌ من الحجر، يقف كخط فاصل بين عالمين.
"هذا ليس مجرد سور... إنه الجدار الذي يفصل بين النعيم والجحيم. خلفه، حيث يُدعى الناس بالبشر، لا شيء سوى الرفاهية والحياة الجميلة، حيث لا يُحكم على المرء إلا بنقاء دمه... أما هنا، فحتى الهواء مُلوث بالضعف."
عند البوابة، الجنود مصطفون بصلابة، أعينهم تفحص كل من يقترب. يرفع القادمون أكمامهم، يكشفون عن علامات محفورة في جلودهم. بعض العلامات غير مكتملة... وأصحابها؟ يُدفعون للخلف، يركلون ككلاب ضالة.
:يتقدم، يقف أمام الحارس. عينان باردتان تتمعنان فيه، ثم يأتي السؤال المعتاد
"هويتك؟"
يسحب ورقة، يناولها للجندي. الأخير ينظر إليها، وعيناه تمران ببطء على الاسم المكتوب فيها.
"تيندو أكاينو.... العمر 16 عام ... رتبة ألفا."
:ضحكة ساخرة تنطلق من فمه، قصيرة لكنها تقطر استهزاءً. يلوّح بالورقة قليلًا قبل أن يردها إليه بازدراء
"واحد آخر من تلك الرتبة؟ يا للعار على المملكة!"
:يشيح بوجهه قليلًا، ثم يرفع ذقنه قائلاً بحدة
"أرني العلامة على يدك."
ببطء، يرفع كمه... يكشف عن العلامة.
سوداء بالكامل.
برهة من الصمت الهواء من حوله يزداد ثقلاً، وكأن الأرض ذاتها توقفت عن الدوران.
عين الحارس تتقلص للحظة... ثم يلتفت إلى القائد الأعلى، ينتظر إشارته.
:يأتي الرد سريعًا، بلا تردد
"إنه مصرح له. أدخله."
يُعاد إليه إثبات هويته، يلتقطه دون أن ينظر إليه، يتقدم نحو البوابة التي تفتح بثقل، صريرها يصدح في الأرجاء كأنها تزاح عن عالم لم يكن يومًا له.
:يضع قدمه داخل المملكة، وقبل أن يُغلق السور خلفه، يهمس الصوت بكلمات
"حين يُعطى للخطيئة وجه، تُعبد كقدر... لكنني لم أُولد لأكون عبداً للقدر."
يتبع.....
ــــــــــــــــ